=======
مولده وحياته
=======
ولد الإمام أحمد في ربيع الأول
من عام 164 هـ في بغداد في خلافة المهدي. ونشأ وتعلم بها يتيماً ترعاه أمه.
واختلف إلى الكتّاب، ثم اختلف إلى الديوان وهو ابن أربع عشرة سنة. وشب
أحمد على أدب عظيم، وخلق كريم، ودين عميق. كان جند الخليفة مع الخليفة في
الرقة، فكانوا يكتبون رسائلهم إلى نسائهم وبيوتهم، فتبعث النساء إلى
المعلم: ابعث إلينا بأحمد بن حنبل ليكتب لنا جواب كتبهم، فيبعثه. فكان يجيء
إليهن مطأطئ الرأس، فيكتب جواب كتبهم، فريما أمْلين عليه الشيء من المنكر
فلا يكتب لهن. وقد حدّث المروذي قال: قال لي أبو عفيف –وذكر أبا عبد الله
أحمد بن حنبل-: كان في الكتاب معنا وهو غليّم نعرف فضله. وبدافع الرغبة في
العلم أقبل أحمد الطفل الصغير بكل قلبه وجوارحه على العلم والدرس والقراءة،
موفور الموهبة،نام المَلَكة، وأخذ يتردد على حلقات العلم في بغداد، وهو
موضع الإعجاب من الناس. قال المروذي: قال لي أبو سراج بن خزيمة –وهو ممن
كان مع أحمد في الكتّاب-: إن أبي جعل يعجب من أدب أحمد وحسن طريقته. فقال
نا ذات يوم: أنا أنفق على أولادي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما
أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، انظر كيف يخرج؟ وجعل يعجب.
وكان الهيثم بن جميل يقول عن أحمد: أحسب هذا الفتى –إن عاش- يكون حجة على
أهل زمانه.
وشاهد أحمد نهاية خلافة المهدي وسنه خمس سنوات، ثم شاهد نهاية خلافة الهادي وأول خلافة الرشيد وسنه ست سنوات.
========
حياته فى عصر الرشيد
========
عاش
أحمد في عصر الرشيد يطلب العلم ويحصله، يمضي ليله ونهاره كله في سبيله.
قال أحمد: طلبت الحديث في سنة 179 هـ وأنا ابن ست عشرة سنة، وهي أول سنة
طلبت الحديث فيها، فجاءنا رجل فقال: مات حماد بن زيد.
شيوخ الإمام أحمد
التقى
الإمام أحد رحمه الله بعدد كبير من أئمة عصره، وأخذ عنهم، وحل في طلب
العلم، والتقى في رحلاته بالكثير من العلماء. ومن مشايخه الذين سمع منهم ما
ذكرهم أحمد بقوله: سمعت من سليمان بن حرب بالبصرة سنة 194 هـ، ومن أبي
النعمان عارم في تلك السنة، ومن أبي عمر الحوضي أيضاً، وأتيت مجلس ابن
المبارك، وقد قدم علينا سنة 179 هـ، وسمعت من علي بن هاشم بن البريد سنة
179 هـ في أول سنة طلبت الحيدث، ثم عدت إليه في المجلس الآخر وقد مات، وهي
السنة التي مات مالك بن أنس. وكان أحمد يقول: أول سماعي من هُشيم. وهؤلاء
جميعاً من شيوخه في الحديث، ومن مشايخه أيضاً سفيان بن عيينة وإسماعيل ابن
علية.
ومن شيوخه في الحديث كذلك عبد المؤمن العبسي، وسمع منه سنة 182 هـ. ومنهم عبد الرحمن بن مهدي، وأبو بكر بن عياش.
قال
أحمد: قدم عبد الرحمن بن مهدي بغداد سنة 180 هـ، وهو ابن خمس وأربعين،
وكنت أراه في المسجد الجامع، فأتيناه ولزمناه، وكتبنا عنه ها هنا.
ومن حدث عنه أحمد من النساء أم عمر بنت حسان بن زيد الثقفي.
========
رحلاته في طلب العلم
========
لقد
رحل الإمام أحمد كثيراً في طلب العلم، فرحل إلى اليمن والتقى بعبد الرزاق
وأخذ عنه، ورحل إلى مكة وإلى البصرة وإلى الري. قال أحمد: كنا عند عبد
الرزاق في اليمن، فجاءنا موت سفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى
بن سعيد سنة 198 هـ.
وممن التقى بهم في الري عليّ بن مجاهد حيث رحل أحمد
إليه عام 182 هـ، وهي أول سنة رحل فيها في طلب العلم، وسمع من جرير بن عبد
الحميد في الري.
ورحل إلى البصرة عام 186هـ في طلب الحديث،
وسمع من سفيان بن عيينة عام 187 هـ، وفي هذا العام أدى فريضة الحج، وخرج
إلى الكوفة في طلب الحديث فأصابته حمى فعاد إلى بغداد.
وقال أحمد: دخلت عبدان سنة 186 هـ.
ويقول
أحمد أيضاً: دخلت البصرة خمس دخلات، وذلك ليسمع من محدثيها، وكذلك رحل إلى
الحجاز خمس مرات. وشاهد فيضان دجلة الكبير عام 186 هـ في أيام الرشيد الذي
اضطر الرشيد بسببه إلى النزول بأهله وحرمه وأمواله إلى السفن. ومنع السندي
بن شاهك والي بغداد الناس من العبور إشفاقاً عليهم، فأقام أحمد بن حنبل لا
يستطيع الرحلة من أجل العلم.
======
لقياه بالشافعي
======
من
أبرز الشخصيات التي التقى بها الإمام أحمد أثناء رحلاته، وأثناء إقامته
أيضاً الإمامالشافعي، رحمه الله، وقد أخذ عنه واستفاد منه كثيراً، وكان
الشافعي يجلّه ويقدره.
ففي عام 187 هـ رحل أحمد إلى الحجاز،
والتقى مع الشافعي، وأخذ منه فقهه وأصوله، وبيانه لناسخ القرآن ومنسوخه،
كما أخذ من سفيان بن عيينة الحديث.
ولما قدم الشافعي بغداد عام
195 هـ التقى أحمد به كذلك، وكان الشافعي يعوّل عليه في معرفة صحة الحديث
أحياناً. وكان أحمد يجلّ الشافعي ويقول فيه: يُرى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: »إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة رجلاً
يقيم لها أمر دينها«، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المئة، وأرجو أن يكون
الشافعي على رأس المئة، أي: الثانية.
ورشحه الشافعي عند الرشيد
لقضاء اليمن فأبى أحمد وقال له: جئتُ إليك لأقتبس منك العلم، تأمرني أن
أدخل لهم في القضاء! وكان ذلك في آخر أيام الرشيد. ورشح الشافعيُّ الإمام
ثانية لقضاء اليمن عند الأمين العباسي فأبى أحمد، وكان ذلك عام 195 هـ.
وقد عقد الحافظ ابن الجوزي الباب الخامس من مناقب الإمام أحمد في تسمية من لقي من كبار العلماء وروى عنهم وذكرهم على الحروف.
============
اهتمامه وحرصه على طلب العلم
============
لقد
ظهر اهتمام الإمام أحمد وحرصه على طلب العلم منذ الصغر، فلم يكن –رحمه
الله- يترك فرصة تمر دون استفادة، وكان شغوفاً بالعلم، شاغلاً وقته كله في
طلب الحديث، فكان مثار عجب الناس.
قال بعضُ العلماء: مرّ أحمد
بن حنبل عليناً قادماً من الكوفة، وبيده خريطة فيها كتب، فأخذتُ بيده،
فقلت: مرة إلى الكوفة، ومرة إلى البصر، إلى متى؟ إذا كتب الرجلُ ثلاثين ألف
حديث لم يكفه؟ فسكت أحمد، ثم قلت: ستين ألف؟ فسكتَ. فقلت: مئة ألف؟ فقال:
حينئذ يعرف شيئاً. فنظرنا فإذا أحمد قد كتب ثلاث مئة ألف حديث.
وهكذا
قضى وقته وأيامه في عصر الرشيد في طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان يقول: فاتَني مالك، فأخلف اللهُ عليّ سفيانَ ين عيينة، وفاتني حماد
بن زيد فأخلف الله عليّ إسماعل ابن علية.
ويقول أحمد: كنت ربما أردتُ البكور في طلب الحديث، فتأخذ أمي بثيابي وتقول: حتى يؤذّن الناس.
وأحبَّ
أحمدُ العلمَ والكتابة محبة شديدة حتى قبل: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت
هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، فقال: مع المحبرة إلى المقبرة. وكان يقول:
أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر.
وفي مكة سُرِق متاعه وهو
خارج البيت يطلب الحديث، ولما عاد قيل له ذلك، فلم يسأل عن شيء من
المتاع،وإنما بادر بالسؤال عن الألواح التي كتب فيها حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولم يطمئن إلا بعد أن وجدها.
وكان عبد الله بن الإمام أحمد يقول: خرج أبي إلى طرسوس ماشياً، وخرج إلى اليمن ماشياً.
ولأمانة
أحمد رحمه الله وصدق روايته في الحديث كان يمزّق الأحاديث التي يكتبها عن
الضعفاء في الرواية. كل هذا وهو على سمته من الزهد، وشأنه من الفقر، حتى
كان يقول: ما أعدِل بالفقر شيئاً. لقد شُغل بالعلم، فلم يتزوج إلا بعد
الأربعين.
=========
جلوسه للفتوى والحديث
=========
لقد
كان الإمام أحمد يتحرج ن الفتوى حتى تمكن من علمه، ووثق من اطلاعه، واجتمع
لديه ثروة كبيرة من نصوص السنة، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم.
ولم
يجلس أحمد للحديث والفتوى إلا بعد أن بلغ سن الأربعين، وذلك عام (204 هـ).
ويحكى في ذلك أن بعض العلماء جاء إليه في بغداد عام (203 هـ) يطلب الحديث،
فأبى أن يحدّثه، فذهب، ثم عاد إليه عام (204 هـ) فوجد أحمد قد حدّث،
واستوى الناس عليه.
وروي أنه رئي في مسجد الخيف سنة (198 هـ)،
وجاءه أصحاب الحديث، فجعل يعلمهم الفقه والحديث، ويفتي الناس في المناسك.
ولعل ذلك محمول على الضرورة وعدم وجود غيره ممن يقوم مقامه، أو على أنه
سُئل فأجاب، خروجاً من إثم كتمان العلم.
=============
من روى عنه الحديث والعلم
=============
ولما
اشتهر الإمام بالعلم، وتمكن منه، وعرف فضله فيه، أخذ عنه الناسُ الحديث،
وتتلمذوا عليه،وقد روى عنه الحديث خلق كثير، منهم عدد من مشايخه من مثل:
عبد الرزاق بن همّام الصنعاني، وإسماعيل ابن عُلية، ووكيع بن الجراح، وعبد
الرحمن بن مهدي، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومعروف الكرخي، وعلي ابن المديني،
وغيرهم الكثير.
وقد حدّث عنه من الشيوخ والأصحاب على الإطلاق
عدد كثير أيضاً، ذكرهم ابن الجوزي في »المناقب« ورتبهم على الحروف، منهم:
أبناؤه وأبناء أبنائه، ومن مثل: إبراهيم بن أبان الموصلي، وإبراهيم بن
إسحاق الحربي، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، والجُنيد الصوفي، والحسن بن أحمد
الإسفراييني، والحسن بن الهيثم البزار، وسليمان بن الأشعب أبو داود
السجستاني، وعثمان الموصلي، والقاسم بن الحارث المروزي. ومنهم أيضاً:
البخاري، والترمذي، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر الطبراني.
وممن
روى عنه من النساء: حُسن جاريتُه، وخديجة أم محمد، وريحانة بنت عم أحمد
وزوجته أم عبد الله، وعباسة بنت الفضل زوج أحمد وأم ابنه صالح، ومخة أخت
بشر الحافي.
وأخيراً، فقد شاهد أحمد نهاية عصر الرشيد (193هـ)، وعصر
الأمين (198هـ)، وجزءاً من عهد المأمون، قبل أن يذهب هذا الخليفة العباسي
إلى ما ذهب إليه من القول بخلق القرآن.
وهو في كل ذلك يعلو مكانة في
العلم والحديث والفتيا، وفي الزهد والتواضع والرفعة. ومضت الأيام بالإمام،
وجاء عام 212 هـ يحمل جديداً من سياسة المأمون حيث جهر بالقول بخلق القرآن
اتباعاً للمعتزلة. وكان أبو الهذيل العلاف المعتزلي أستاذاً للمأمون، وهو
الذي غرس في نفسه حب المعتزلة، والتشيع لآرائهم، وسنفصل الكلام في ذلك، وفي
المحنة التي مني بها الإمام أحمد بسبب موقفه الصلب في الدفاع عن العقيدة،
عليه رحمة الله وبركاته.
========
اسرته
========
ينتمي الإمام أحمد بن محمد بن حنبل إلى بني شيبان. كان أبوه محمد قائداً، وقبل كان جندياً، وقال ابن الجزري: كان أبوه في زي الغزاة.
وكانت
أمه كذلك شيبانية، واسمها صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني. نزل
محمد بن حنبل بهم وتزوج بها. وكان جدها عبد الملك من وجوه بني شيبان، تنزل
عليه قبائل العرب فيضيفهم. وجيء بأحمد حملاً من مرو إلى بغداد، توفي أبوه
عن ثلاثين سنة، فوليته أمه. ويروى عن أحمد: قُدِم بي من خراسان وأنا حمْل،
وولدت هاهنا، ولم أر جدي ولا أبي. فميلاد أحمد ببغداد، وبها نشأته وطلبه
للعلم والحديث. وكانت أسرة الإمام وأسرة والدته تنزل بالبصرة وباديتها، ثم
لم يستمر مقامها بها، إذ انتقل جده إلى خراسان، وكان والياً على سرخس في
العصر الأموي، ثم عمل في صفوف الدعاة العباسيي، وناله ما ناله بسبب ذلك.
وعمل أبوه في مرو، ثم انتقل إلى بغداد ومات بها، وأحمد طفل، ونشأ يتيماً
تشرف عليه أمه، وقد ترك له أبوه ببغداد عقاراً يسكنه، وآخر يغله غلةً
ضيئلة. وبهذا يتضح أن الإمام أحمد من أسرة ذات مجد عريق، وأنه نشأ يتيماً
في حضانة أمه، تنفق عليه من مال ضئيل تركه له أبوه. وعمه هو إسحاق بن حنبل
الشيباني (161-253م)، وكان ملازماً في أكثر أوقاته مجلس أحمد، ولعمه ابن
اسمه حنبل بن إسحاق بن حنبل الشيباني، توفي عام (273هـ) بواسط. وكان أحمد
له صلة بالخلافة، ويُروى أنه كان يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم
بها الخليفة إذا كان غائباً عنها. ويُروى عن ابن عمه حنبل أن فقهاء بغداد
اجتمعوا في ولاية الواثق وشاوروا الإمام أحمد في ترك الرضى بخلافته، فقال
لهم: عليكم بالنكرة في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا
المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين، وذكر الحديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم: »إنْ ضربك فاصبرْ« أمر بالصبر.
======
بيئتـــــه
======
ولد
الإمام أحمد في بغداد في ربيع الأول عام 164 هـ/ 780 م. وقد جاءت أمه إلى
بغداد حاملاً به من مرو التي كان يقيم بها أبو محمد بن حنبل الشيباني.
وكانت
مواطن الشيبانيين بالبصرة وباديتها. فبعد عمرانها عاش الشيبانيون فيها،
وكانت أسرة أمه وأبيه تنزلان بالبصرة وضواحيها، وقيل لأحمد بصري لسكن أسرته
في البصرة وإقامتها بها، وكان إذا زار البصرة صلى في مسجد بني مازن
الشيبانيين، ويقول: »إنه مسجد آبائي«.
فبغداد إذن هي مولد ومنشأ وموطن الإمام أحمد، والبصرة هي موطن أسرة أبيه وأمه الشيبانيين.
وقد
نشأت بغداد عاصمة العباسيين في عهد المنصور العباسي عام 145 هـ وبنى قصره
المعروف بقصر الذهب في وسطها، وأخذت مبانيها تكثر، وعمرانها يزداد. وولد
الإمام أحمد وقد مضى من عمران دار السلام تسعة عشر عاماً هجرياً، وصارت
بغداد منذ نشأت عاصمة الخلافة، ومدينة العلم، ومجمع الحضارات الإسلامية.
وكان
البغداديون موصوفين بالجلد والجد في طلب العلم على اختلاف ضروبه. وكان
سفيان بن عيينة كثيرَ الثناء على شباب البغداديين وشدة رغبتهم في طلب
العلم. وقال ابن علية: »ما رأيت قوماً أحسن رغبة ولا أعقل في طلب الحديث من
أهل بغداد«، وقال ابنُ عائشة: »ما رأيت أحسن من تلقف أصحاب الحديث ببغداد
للحديث«.
وقال الإمام الشافعي ليونس بن عبد الأعلى: يا يونس، أدخلت
بغداد؟ قال: لا، قال: ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس! وكان الشافعي يقول:
ما دخلت بلداً قط إلا عددته سفراً إلا بغداد، فإن حين دخلتها عددتها وطناً.
وكان يقال: الأرض كلها بادية وبغداد خاضرتها، ومن لم يرها لم ير الدنيا.
وقد
اتسع عمران المدينة، وازدهرت حضارتها، وكثرت مساجدها، ومدارسها، وطلاب
العلم فيها. وجاء في بعض رسائل أبي العلاء: العلم في بغداد أكثر من الحصا
عند جمرة العقبة. وكان الصاحب بن عباد الوزير يقول: بغداد في البلاد كابن
العميد بين العباد.
وقدولي المهدي الخلافة سنة 158 هـ في ذي الحجة،
وتوفي في المحرم سنة 169 هـ. وفي عهده ولد أحمد، وشهدت بغداد ألواناً من
الحضارة لمن تشهدها من قبل. ثم شهدت بغداد خلافة الهادي (محرم 169 - ربيع
الأول 170 هـ)، فالرشيد (ربيع الأول 170 – جمادى الآخرة 193 هـ)، فالأمين
(193 – المحرم 198 هـ)، فالمأمون (198 – رجب 218 هـ)، فالمعتصم (218 – ربيع
الأول 227 هـ)، فالواثق (227 – 232 هـ)، فالمتوكل (ذو الحجة 232 – 247
هـ).
ولشهرة بغداد بالحديث زارها الإمام البخاري (المتوفى سنة 256 هـ)
فاجتمع عليه أصحاب الححديث من أهلها، فعمدوا إلى مئة حديث، فقبلوا متونها
وأسانيدها، ثم كلما عرضوا عليه حديثاً منها قال: لا أعرفه، فلما كملت
المئة، أخذ يعيد كل حديث إلى سنده، وكل سند إلى متنه، فأقر له البغداديون
بالحفظ والعلم.
وكان الإمام أحمد وابنه عبد الله من أعظم المحدثين في
بغداد، وقد سكن الإمام أبو حنيفة بغداد في آخر حياته، وكان من تلاميذه أبو
يوسف الأنصاري القاضي (182 هـ)، ومحمد بن الحسن الشيباني (189 هـ)، وزار
الشافعي بغداد أكثر من مرة، وفيها أملى مذهبه القديم، ويقال لمذهبه بعد
رجوعه من بغداد إلى مصر: المذهب الجديد. ولقيه الإمام أحمد في بغداد وأخذ
عنه.
وصار للفقه –كما كان للحديث- منزلة عالية في بغداد من بين سائر
العلوم. وقامت في بغداد سوق نافقة للعلوم والآداب والفلسفة والتاريخ، وشتى
أنواع المعرفة، وحفلت بخزائن الكتب التي لم يكن لها نظير في بلاد الإسلام.
وفي
هذه البيئة –بيئة بغداد- عاش الإمام أحمد بن حنبل متأثراً بهذا الجو
العلمي، ومؤثراً فيه، فكان علَماً من أعلامه، بل من أعلام الإسلام في مختلف
عصوره، عليه رحمة الله.
أما مدينة البصرة وبيئتها التي نشأ فيها قوم
أحمد الشيبانيون، فقد بنيت عام 14 هـ في عهد الخليفة عمر، بناها عتبة بن
غزوان بأمر الخليفة، وأخذ عمرانها يتسع، والحياة فيها تزدهر، ونبغ فيها
فحول من العلماء والشعراء والأدباء على اختلاف العصور.
وصارت البصرة بعد
قليل من أكبر مراكز الحياة العقلية في الإسلام، ومن أهم موانئ البحرية
والمدن التجارية، وزادت حضارتها في عصر العباسيين، وكان الخلفاء العباسيون
لا يولون عليها إلا أميراً من أمراء اليبت الهاشمي العباسي، ومنهم جعفر بن
سليمان بن علي، ومحمد بن سليمان الهاشمي، وإسحاق بن سليمان بن علي الذي ولي
البصرة للرشيد ومات ببغداد وكان من معادن العلم، وعيسى بن جعفر حفيد
المنصور وصهر الأمين.
وقد مات في البصرة مدارس اللغة والنحو والأدب، والزهد والتصوف والاعتزال والفلسفة وغيرها.
ومن
أشهر علمائها: أبو عمر بن العلاء (70-104 هـ)، والخليل بن أحمد (100-175
هـ)، وسيبويه (189 هـ)، وأبو عبيدة (110-209 هـ)، والأصمعي (122-216 هـ)،
والجاحظ (255 هـ).
ومن أشهر أدبائها وشعرائها: الفرزدق وجرير، (توفيا عام 110 هـ)، وابن المقفع (106-143 هـ)، ومسلم بن الوليد (208 هـ).
ونبع
فيها واصل بن عطاء (80-131 هـ)، وعمرو بن عبيد (80-144 هـ)، وأبو هذيل
العلاف، وهو أستاذ المأمون في الاعتزال، والنظام، وابن أبي دؤاد (160-240
هـ)، والكندي الفيلسوف (253 هـ).
واشتهرت البصرة بمربدها، وكان سوقاً أدبية مشهورة، كعكاظ، وكان يقال: العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة.
وقد
نزل بالبصرة من الصحابة والتابعين: أبو موسى الأشعري (44 هـ)، وأنس بن
مالك (93 هـ)، والحسن البصري (110 هـ)، وأبو الأسود الدؤلي (69 هـ)، وسعيد
بن أبي عروبة (156 هـ)، وهو شيخ البصرة وعالمها وأول من دوّن العلم بها.
فهو أول من ألف الكتب بالعراق. وكان بها إياس المزني قاضي البصرة، وتوفي
عام (122 هـ).
وفي هذه البيئة عاش قوم أحمد بن حنبل –الشيبانيون- ولا شك
أن لهذا الجو الذي عاشوا فيه أثراً فيهم، قد يكون له تأثير في الإمام أحمد
وأسرته.
=====
عصـــــره
=====
سبع وسبعوه عاماً
هجرياً هي حياة الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- عاشها في عصر من أزهى عصور
الإسلام سلطاناً، وحضارة وثقافة، عاصر فيها ثمانية من الخلفاء العباسيين:
المهدي، والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم، والواثق،
والمتوكل. وشاهد الإمامُ عظمة الخلافة العباسية، فقد ثبّتت قواعدها، وامتد
سلطانها في أيام المهدي، وتألقت حضارتها، وعظمت هيبتها في زمن الرشيد
والمأمون، وتوالت انتصاراتها في خلافة المعتصم، وظلت في قوة وازدهار في
عصري الواثق والمتوكل.
وكان النفوذ السياسي في هذا العهد للعنصر الفارسي
–في الغالب- لأنه الذي ساعد على قيام الدولة العباسية، ونشر دعوتها، وثلّ
عرش الأمويين. وإنْ كان للخليفة العباسي الرأي الأخير والكلمة النافذة.
وربما أوجس في نفسه خيفة من معاونيه الفرس، فبطش بهم، كما فعل المنصور بأبي
مسلم الخراساني، وكما فعل الرشيد بالبرامكة، والمأمون بالفضل بن سهل.
وإذا
كانت الدولة الأموية لم يتمكن فيها الأعاجمُ، فإن دولة بني العباس أصبحت
أعجمية خراسانية كما يقول الجاحظ، فالفرس أكثرُ من تولى الأعمال للمنصور،
واتخذ الخلفاء ذلك سنة. وفي عصر الرشيد زاد نفوذ الفرس في الدولة لمكانة
البرامكة، وأصبح منصب الوزارة فيهم، وظل نفوذهم في ازدياد بتوالي السنين.
واتخذ الفضلُ بن يحيى البرمكي الوزير جنداً من العجم سماهم: العباسية، بلغ عددهم نحو خمس مئة ألف رجل، وجعل ولائهم للعباسيين.
وأقام
الرشيد وغيره من الخلفاء علاقات بينه وبين ملوك غربي أوروبا، ومن بينهم
شارلمان، ودفع ملوك الدولة الرومانية الشرقية الضرائب للخلفاء.
وفي عهد
المعتصم كوّن الخليفة فرقة عسكرية كبيرة في جيش الخلافة من الأتراك بلغ
عددها نحو سبعين ألفاً. ولما ضاقت بهم بغداد، وكثرت الخصومات بينهم وبين
الفرس، وبينهم وبين العامة، أتى المعتصم (سامراء فاتخذها معسكراً لجيشه
وحاضرة ملكه منذ عام 221 هـ، وأصبحت مدينة عظيمة في مدة قليلة، وظلت عاصمة
الخلافة حتى عام 289 هـ.
وكانت أم المعتصم (ماردة) تركية من السغد،
ولاطمئنانه إلى الأتراك صاروا موضع ثقته وإيثاره، وقد أثر ذلك على العناصر
الأخرى، وأخذ النفوذ في الخلافة ينتقل منذ عهد المعتصم رويداً رويداً إلى
الأتراك، وقد أساء بعضُهم التصرف، وأضر بالناس، وانتهك هيبة الخلافة،
فكرههم الناسُ. وقد هجا (دعبل) الشاعرُ المعتصمَ بسبب ذلك، فقال:
وهمُّك تركيّ عليه مهانة*فأنت له أمّ وأنتَ له أبُ
وكان
الفتح بن خاقان –المقتول عام 247 هـ- وزير المتوكل تركياً، وقد عهد إلى
الجاحظ أن يكتب رسالة عن مناقب الأتراك وعامة جند الخلافة ليخفف بها من
كراهية الناس لهم، ولكن ذلك لم يُجْدِ.
وقد حفل عصرُ الإمام أحمد بكثرة ثورات العلويين، وخروجهم على الخلافة لاضطهاد العباسيين لهم، وبخاصة في عهدي الرشيد والمتوكل.
ولم
تخلُ البلادُ في عصر الإمام من الفتن والحروب والثورات، كثورة الراوندية
–أتباع ابن الراوندي الرافضي- والزنادقة في فارس والعراق، والخرّمية أتباع
بابك الخرمي الذي ملك الجبل أكثر من عشرين عاماً (201-223 هـ) حتى قضى
المعتصم على ثورته.
وكانت غزوات الصيف والشتاء مستمرة، وأكثر ما كانت
موجهة إلى الإمبارطورية الرومانية الشرقية في سهول آسيا الصغرى –وخاصة في
زمن الرشيد والمعتصم-.
وقامت إمارات مستقلة في نواحي دولة الخلافة، كالدولة الطاهرية في خراسان –وهي فارسية- والدولة الدلفية بكردستان –وهي عربية- وسواهما.
وقد
كان للفقهاء والمجتهدين سلطانهم في الخلافة، ومكانتهم في الدولة، وكان
الإمام أحمد –الذي كان جده من المجاهدين في سبيل قيام الدولة، وكان أبوه
قائداً صغيراً من قوادها – يدعو للدولة بالاستقامة، وللناس بالرشد، ومع
غضبه من أمور الخلافة فلم يحرض الناس على الخلفاء، والخروج عليهم، لمخالفة
ذلك لأحكام الشريعة، وما ينتج عنه من المفاسد العظيمة.
وقد نأى عن
الخلافة واعتزلها، وامتنع عن أخذ الأعطيات، وابتعد عن السياسة إلى العلم
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يشايع الولاة ولم يحرض عليهم. وعاش
راغباً عن العطاء، منصرفاً للعلم انصرافاً تاماً. ومع ذلك فقد قاوم
مذاهبهم المنحرفة من مثل القول بخلق القرآن، ووقف كالطود الشامخ في تلك
المحنة التي ابتلي فيها المسلمون، ولم يثبت فيها إلا القلة. فرحمه الله
وجميع الصابرين.
وتميزت الحياة الاجتماعية في هذا العصر بتعدد العناصر
التي يتألف منها المجتمع: من عرب وفرس وترك وروم وهنود وزنوج.. وغير ذلك من
الأجناس التي يربط بينها رابط الإسلام وتجتمع تحت كلمة التوحيد: لا إله
إلا الله محمد رسول الله.
وكان النفوذ في الخلافة ينتقل بين أيدي القواد
والوزراء من الفرس والترك، وكان الثراء والترف يشمل طبقة كبيرة من المجتمع
–كبار رجال الدولة، وبعض رجال التجارة والصناعة- وقد مظاهر ذلك الثراء
والترف في عمران المدن وبناء القصور وما أنفق فيها. فروايات التاريخ –وإن
كانت فيها مبالغة- تروي أن المعتصم أنفق على بناء (سامراء) أموالاً طائلة،
وكذلك فعل المتوكل في بناء قصره الجعفري، وتنقل أيضاً: أن محمد بن سليمان
الهاشمي أهدى إلى الخيزران –زوجة المهدي- مئة وصيفة، في يد كل واحدة جام من
ذهب، وزنه ألف مثقال، مملوء مسكاً.
وكان في المجتمع كثير من الفقراء
ومتوسطي الحال من عامة الناس، وقد صوّر أبو العتاهية حياة هؤلاء في قصيدة
تحدث فيها عن الغلاء، فقال للرشيد:
مَ نصائحاً متواليَه
مَن مبلغ عني الإما
ــــــعارَ الرعية عاليَه
إني أرى الأسعارَ أســـــ
تِ وللجسومِ العاريه
مَن للبطونِ الجائعا
ولتعدد
عناصر المجتمع، وتنوع الحياة الاجتماعية واختلاف الوجهات والآراء كانت
البلاد معرضة للنِّحَل، ومجالاً للمذاهب السرية، وأصحاب الدعوات المختلفة.
فكان فيها أهل السنة والحديث، وكان فيها التشيع برجالاته، والاعتزال
بطوائفه، وكانت فيها الفلسفة بمختلف مذاهبها، والعلوم الحديثة بشتى
أنواعها. وكان لأهل السنة والجماعة دور كبير في مكافحة الشك في الدين
والفساد في المجتمع والدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة. وكان بين جميع
هذه الطوائف جدل شديد ومناقشات وخصومات. وهكذا عاش الناس في امتزاج وتوليد
بين مختلف العناصر والأجناس، وفي صراع شديد بين الآراء والمذاهب: بين دعوة
الإسلام الخالصة، ودعوات الشعوبية الجامحة، وبين حياة الإيمان وحياة
الزندقة، وبين عيشة الجد وعيشة اللهو، مما أثر في الحياة الاجتماعية في هذا
العصر.
ولم يكن الإمام أحمد رحمه الله بعيداً عن ذلك كله، بل كان له أثره في حياته كأي عالم يهتم بمشكلات أمته ويسعى لصلاحها.
وصاحب ذلك ازدهارُ بغداد وحضارتها، وازدهار العواصم الإسلامية الكبرى في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
وازدهرت
الحياة العقلية والعلوم الإسلامية في عصر الإمام أحمد رحمه الله، وأخذ
الخلفاء يشجعون الحركة العلمية في شتى نواحيها، ويضفون عليها ظلال رعايتهم،
وكانوا يبالغون في إكرام العلماء والفقهاء والمحدثين والأدباء ويجالسونهم
ويقربونهم إليهم.
وصار العلم والأدب مما يؤهل للمناصب العالية، وتنافس
العظماء في تكريم العلماء والأدباء، وكما تنافسوا في إنشاء دور العلم،
وترجمة الكتب إلى العربية من مختلف اللغات.
وكانت الثقافة الإسلامية
بمختلف فروعها هي الثقافة الذائعة، وهي أساس التكوين العقلي للمتعلمين في
هذا العصر- وقوامها علوم الدين واللغة والأدب، وما يتصل بكل ذلك من علوم
ومعارف- على أنه قد كانت هناك ألوان من الثقافات الأخرى، ولكنها لم يكن لها
سلطان كما كان للثقافة الإسلامية، لارتباط الثقافة الإسلام بحياة
المسلمين، ومن تلك الثقافات: الثقافة الفارسية، والثقافة اليونانية،
والثقافة الفلسفية التي لقيت تشجيعاً من الرشيد والمأمون بصفة خاصة،
والثقافة الهندية، وغير ذلك تبعاً لامتداد الحكم الإسلامي وشموله لأمم
وعناصر مختلفة.
فقد أنشأ الرشيد في بغداد (بيت الحكمة) وملأه بكتب الأمم
القديمة التي دخل الكثير منها في الإسلام، وشجع ترجمة الكثير منها، فترجمت
له الكتب من اليونانية والرومانية والسريانية والفهلوية والهندية، وقد
تعددت الثقافات في العراق في عصر الإمام أحمد وحدث بين دعاتها جدل شديد
وخلاف كثير.
وكانت المعتزلة تحمِل ثقافة اليونان وفلسفتهم ومنطقهم إلى العقل العربي فتثير بذلك صخباً شديدأ.
وكان
هذا العصر –على أية حال- أزهى عصور العلم في البلاد الإسلامية، ونبغ أعلام
في مختلف فروع الثقافة والعلم، وأدرك الناس قيمة العلم في بناء الأمم
ونهضتها، فانكبوا على دراسة العلوم الإسلامية وغيرها. وعهد أهل اليسار إلى
المؤدبين بتعليم أبنائهم، وبذلك صار التعليم صناعة، وأصبح التأديب طريقاً
إلى المجد. وقد تعددت مراكز العلم في هذا العصر وكثرت. وكان للعلوم
المترجمة أثرها، -وبخاصة فلسفة اليونان- في تفكير بعض المسلمين، وكان لها
مكانة عندهم. وتعددت مناهج التفكير والبحث، وصار الخلاف بين هذه المناهج
على أشده في العراق. وبلغ نفوذ الاعتزال منزلة كبيرة في عصر المأمون
والمعتصم والواثق.
وقد حمل ابن قتيبة (213-276 هـ) في مقدمة كتابه »أدب
الكاتب« على الحالة في عصره، حيث أهمل الناسُ علومَ الدين، وعنوا بعلوم
الفلسفة والمنطق. وحمل البحتري على الشعراء الذي يعنون بالمنطق اليوناني في
شعرهم ويكلفون به، فقال:
في الشعرِ يكفي عنْ صدقه كذبُهْ
كلفتمونا حدودَ منطقكم
ـمنطق ما نوعه وما سببُهْ
ولم يكن ذو القروح يلهج بالـ
وقد
نبع في عصر الإمام أحمد رحمه الله كثير من العلماء مثل: مالك (179 هـ)،
والليث بن سعد (92-175 هـ)، والشافعي (204 هـ)، والكرابيسي (245 هـ)،
والزعفراني (260 هـ)، والبويطي المصري (231 هـ)، وعبد الله بن أحمد بن حنبل
(213-290 هـ)، ويوسف بن يعقوب القاضي (208-297 هـ)، وإسماعيل بن إسحاق
قاضي بغداد.
ومن مثل: أبي الحسن المديني (135-234 هـ)، والواقدي (130-207 هـ)، ومحمد بن سعد الزهري كاتب الواقدي (230 هـ).
ومن
مثل: ابن السمّاك (183 هـ)، وصالح المري الزاهد واعظ البصرة (172 هـ)، وذي
النون المصري (245 هـ)، وسفيان بن عيينة (298 هـ)، وسواهم.
كما نبغ من
علماء اللغة والأدب ومن الشعراء أعلام كثيرون. وعاش في هذا العصر: الخليل
من أحمد (100-175 هـ)، وسيبويه (179 هـ)، والأصمعي (122-216 هـ)، والجاحظ
(163-255 هـ)، وابن قتيبة (213-276 هـ)، والمبرد (210-285 هـ).
وظهر من
المعتزلة والفلاسفة: النظّام (180-223 هـ)، وأحمد بن أبي دؤاد (160-240
هـ)، وأبو الهذيل العلاف البصري أستاذ المأمون (135-235 هـ)، والفضل بن
الربيع (208 هـ)، والكندي الفيلسوف (253 هـ)، وغيرهم.
ومن الوزراء
المشهورين: الفضل البرمكي (147-192 هـ)، والفضل بن سهل (202 هـ)، والفضل بن
الربيع (2008 هـ)، وإبراهيم بن المهدي (224 هـ)، والحسن بن سهل (166-236
هـ)، وسواهم من أعلام العصر.
وكان عصر الإمام أحمد –رحمه الله- عصر
المحدثين والفقهاء. وقد فشل المعتزلة في السيطرة على الفكر الإسلامي، كما
فشلوا في فرض منطق أرسطو وفلسفة اليونان على المسلمين.
وقد وضع الإمام
الشافعي أصول استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة، ووضع الإمام أحمد
أصول علم الحديث بمسنده الكبير الذي صار إماماً وجامعاً، وكان مقدمة لتمييز
علوم الحديث عن الفقه. فقد طلب رحمه الله الأحاديث والآثار من ينابيعها،
وطلب الفقه من رجاله، ونبغ في الجانبين.
وعصر الإمام أحمد هو عصر التقاء
الثمرات الفقهية والعلوم الإسلامية، وهو عصر المناظرات بما فيها من جدل
ونقاش، ويمثل ابن قتيبة معركة التقاء الثقافات في كتابه »اختلاف اللفظ«
فيقول:
»كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع،
والمستعمل من الواضح، وفيما ينوب الناس، فينفع اللهُ به القائل والسامع،
وقد صار أكثر التناظر –أي في عهد ابن قتيبة- فيما دق وخفي، وفيما لا يقع،
وصار الغرض منه إخراجَ لطيفة، وغوصاً عن غريبة، ورداً على متقدم، فهذا يرد
على أبي حنيف، وهذا يرد على مالك، والآخر على الشافعي، بزخرف من
القول،ولطيف من الحيل، كأنه لا يعلم أنه إذا ردّ على الأول صواباً عند الله
بتمويهه فقد تقلد المأثم عن العاملين به دهر الداهرين. وهذا يطعن بالرأي
على ماضٍ من السلف وهو يرى، وبالابتداع في دين على آخر وهو يبتدع. وكان
المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر والشكر وفي تفضيل أحدهما عن
الآخر، وفي الوساوس والخطرات، ومجاهدة النفس وقمع الهوى، وقد صار
المتناظرون –أي اليوم- يتناظرون في الاستطاعة والتوليد والطفرة والجزء
والعرض والجوهر، فهم دائبون يتخبطون في العشوات، فقد تشعبت بهم الطرق،
وقادهم الهوى بزمام الردى.
وكان آخر ما وقع من الاختلاف من الذين لم
يزالوا بالسنة ظاهرين، وبالاتباع قاهرين، يداجون بكل بلد ولا يداجون، يستتر
منهم بالنحل ولا يستترون، ويصدعون بالحق ولا يستغشون، لا يرتفع بالعلم إلا
من رفعوا، ولا تسير الركبان إلا بذكر من ذكروا«.
وهو يصور بهذا سلطان أهل السنة بعد خذلان المعتزلة والمعتزلين.
هذه معالم الحياة العقلية في عصر الإمام أحمد بما فيها من مؤثرات وتأثيرات.
وبما
تقدم أخذنا لمحة عن عصر الإمام أحمد –في جانبه السياسي والاجتماعي
والعقلي- وما اشتمل عليه من تطورات ونهضات، وكان –رحمه الله- في قمة هذا
الطود الشامخ زاهداً، وعالماً، ومقتفياً أثر من سبقه من أهل السنة، لا يزيغ
في الدين إلى الآراء والأفكار الوافدة، والفلسفات الطارئة، ولا يتبع مناهج
الجدليين ولا منطق المعتزليين.
ورغم كثرة الفرق والطوائف في عصره، وكثرة الاختلافات والتقلبات، فقد ثبت إماماً وحده، وكان نسيج دهره وعصره.
رحمه الله رحمه واسعة.
=======
مذهبه
=======
مذهب
ابن حنبل من أكثر المذاهب السنية محافظة على النصوص وابتعاداً عن الرأي.
لذا تمسك بالنص القرآني ثم بالبينة ثم بإجماع الصحابة، ولم يقبل بالقياس
إلا في حالات نادرة.
* منهجه العلمي ومميزات فقهه: اشتُهِرَ الإمام
أنه محدِّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه مع أنه كان إماماً في كليهما. ومن
شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط وذلك لأنه كان
محدِّث عصره وقد جُمِعَ له من الأحاديث ما لم يجتمع لغيره، فقد كتب مسنده
من أصل سبعمائة وخمسين حديث، وكان لا يكتب إلا القرآن والحديث من هنا
عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور، فكان لا يفتي في مسألة إلا إن
وجد لها من أفتى بها من قبل صحابياً كان أو تابعياً أو إماماً. وإذا وجد
للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحداً من هذه الأقوال وقد لا يترجَّح عنده
قول صحابي على الآخر فيكون للإمام أحمد في هذه المسألة قولين.
*
وهكذا فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من
المعقول عنده أن يعبد أحد ربه بالقياس أو بالرأي وكان رسول الله يقول:
"صلوا كما رأيتموني أصلي"، ويقول في الحج: "خذوا عني مناسككم". كان الإمام
أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التي يعتبرها حق لله على عباده وهذا
الحق لا يجوز مطلقاً أن يتساهل أو يتهاون فيه.
* أما في المعاملات
فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة والصلاح لكل بيئة وعصر، فقد تمسَّك أحمد
بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير. مثال ذلك أن الأصل في
العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص، بينما عند بعض الأئمة الأصل في
العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص.
* وكان شديد الورع في
الفتاوى وكان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث فإذا رأى أحداً يكتب عنه
الفتاوى، نهاه وقال له: "لعلي أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه من
المعلوم فأغير فتواي فأين أجدك لأخبرك؟". من شيوخه سفيان بن عيينة والقاضي
أبو يوسف ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وخلق كثير.وروى عنه من شيوخه
عبد الرزاق والشافعي ومن تلاميذه البخاري ومسلم وأبو داود. ومن أقرانه علي
بن المدينيويحيى بن معين.
=====
محنتــه
=====
اعتقد
المأمون برأي المعتزلة في مسألة خلق القرآن، وطلب من ولاته في الأمصار عزل
القضاة الذين لا يقولون برأيهم. وقد رأى أحمد بن حنبل أن رأي المعتزلة
يحوِّل الله إلى فكرة مجرّدة لا يمكن تعقُّلُها فدافع ابن حنبل عن الذات
الإلهية ورفض قبول رأي المعتزلة، فيما أكثر العلماء والأئمة أظهروا قبولهم
برأي المعتزلة خوفاً من المأمون وولاته عملا بقوله تعالي :" إلا من أكره
وقلبه مطمئن بالإيمان".. وألقي القبض على الإمام ابن حنبل ليؤخذ إلى
الخليفة المأمون. وطلب الإمام من الله أن لا يلقاه، لأن المأمون توعّد بقتل
الإمام أحمد. وفي طريقه إليه، وصل خبر وفاة المأمون، فتم رد الإمام أحمد
إلى بغداد وحُبس ووَلِيَ الخلافة المعتصم، الذي امتحن الإمام، وتم تعرضه
للضرب بين يديه، وقد ظل الإمام محبوساً طيلة ثمانية وعشرين شهراً. ولما
تولى الخلافة الواثق، وهو أبو جعفر هارون بن المعتصم، أمر الإمام أن يختفي،
فاختفى إلى أن توفّي الواثق.
وحين وصل المتوكل ابن المعتصم والأخ
الأصغر للواثق إلى السلطة، خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من
الاعتقاد بخلق القرآن، ونهى عن الجدل في ذلك. وأكرم المتوكل الإمام أحمد
ابن حنبل، وأرسل إليه العطايا، ولكن الإمام رفض قبول عطايا الخليفة.
=====
مؤلفاته
=====
*
المسند ويحوي أكثر من أربعين ألف حديث نبوي. وكتاب المسند قد تعرض لعدة
شروحات ومن أفضلها كتاب الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني -
للشيخ أحمد البنا.
* الناسخ والمنسوخ، وفضائل الصحابة، وتاريخ الإسلام.
* السنن في الفقه
* أصول السنة
* السنة -
* كتاب أحكام النساء
* كتاب الأشربة
* العلل ومعرفة الرجال
* الأسامي والكنى
* الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله
* الزهد
توفي
أحمد بن حنبل يوم الجمعة 12 ربيع الأول سنة 241 هـ، وله من العمر سبع
وسبعون سنة. وقد اجتمع الناس يوم جنازته حتى ملؤوا الشوارع. وحضر جنازته من
الرجال مائة ألف ومن النساء ستين ألفاً، غير من كان في الطرق وعلى السطوح.
وقيل أكثر من ذلك.
وقد دفن أحمد بن حنبل في بغداد في جانب الكرخ قرب
مدينة تسمى الكاظمية، قبره بين مقابر المسلمين وغير معروف سوى مكان
المقبرة، وقيل أنه أسلم يوم مماته عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس،
وأن جميع الطوائف حزنت على موته.