)تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253)
التفسير:
{ 253 } قوله تعالى: { تلك } التاء هنا اسم إشارة؛ وأشار إلى «الرسل» بإشارة المؤنث؛ لأنه جمع تكسير؛ وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في تأنيث فعله، والإشارة إليه، كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14] ؛ و «الأعراب» مذكر، لكن لما جُمع جَمع تكسير صح تأنيثه؛ وتأنيثه لفظي؛ لأنه مؤول بالجماعة؛ والمشار إليه هم المرسل الذين دلّ عليهم قوله تعالى: {وإنك لمن المرسلين} [البقرة: 252] .
قوله تعالى: { فضلنا بعضهم على بعض }؛ يعني جعلنا بعضهم أفضل من بعض في الوحي؛ وفي الأتباع؛ وفي الدرجات؛ والمراتب عند الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: { منهم } أي من الرسل { من كلم الله } أي من كلمه الله عزّ وجلّ؛ فالعائد محذوف، وذلك مثل موسى، ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ وهذه الجملة استئنافية لبيان وجه من أوجه التفضيل.
قوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات } معطوف على { فضلنا }، لكن فيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب.
--------------------------------------------------------------------------------
وقوله: { ورفع بعضهم درجات } أي على بعض؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة؛ وهي أعلى درجة في الجنة، ولا تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأرجو أن أكون أنا هو»(1)؛ وفي المعراج وجد النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم في السماء السابعة؛ وموسى في السادسة؛ وهارون في الخامسة؛ وإدريس في الرابعة(2)؛ وهكذا؛ وهذا من رفع الدرجات.
قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي الآيات البينات الدالة على رسالته، ويراد بها الإنجيل، وما جرى على يديه من إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله، ونحو ذلك.
قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس } أي قويناه؛ وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: { بروح القدس} ما المراد بها؟ فقيل: المراد بها: ما معه من العلم المطهر الآتي من عند الله؛ والعلم، أو الوحي يسمى روحاً، كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] ؛ وقيل: المراد بـ «روح القدس» جبريل، كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102] ؛ فـ «روح القدس» هو جبريل؛ أيد الله عيسى به، حيث كان يقويه في مهام أموره عندما يحتاج إلى تقوية؛ والآية صالحة للأمرين، فتفسر بهما كما قررناه غير مرة.
قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جاءتهم البينات }؛ «لو» شرطية؛ فعل الشرط فيها { شاء الله }؛ وجوابه { ما اقتتل الذين ... }؛ ومفعول { شاء } محذوف دلّ عليه جواب الشرط؛ والتقدير: ولو شاء الله أن لا يقتتل الذين من بعدهم ما اقتتلوا؛ إما لاتفاقهم على الإيمان؛ وإما لاتفاقهم على المهادنة، وإن كفر بعضهم.
--------------------------------------------------------------------------------
وقوله تعالى: { من بعدهم } أي من بعد الرسل؛ { من بعدما جاءتهم البينات } أي هذا القتال حصل بعدما زال اللبس، واتضح الأمر، ووجدت البينات الدالة على صدق الرسل؛ ومع ذلك فإن الكفار استمروا على كفرهم، ورخصت عليهم رقابهم، ونفوسهم في نصرة الطاغوت؛ وقاتلوا المؤمنين أولياء الله عزّ وجلّ؛ كل ذلك من أجل العناد، والاستكبار؛ و{ البينات } أي الآيات البينات؛ وهو الوحي الذي جاءت به الرسل، وغيره من الآيات الدالة على رسالتهم.
قوله تعالى: { ولكن اختلفوا } أي الذين جاءتهم البينات؛ ثم بيّن كيفية اختلافهم فقال تعالى: { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } وقوله تعالى: { ولكن اختلفوا } معطوف على قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين... }.
قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } هذه الجملة توكيد لما سبق؛ يعني لو شاء الله ألا يقتتلوا ما اقتتلوا؛ وعلى هذا فالمفعول هنا كما سبق.
قوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد }؛ هذا استدراك على قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } ليبين أن ما وقع من الاختلاف والاقتتال كان بإرادته؛ والإرادة في قوله تعالى: { ما يريد } كونية.
تنبيه:
قوله تعالى: { ولكن اختلفوا } بعد قوله عزّ وجلّ: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } بيان لسبب الاقتتال الواقع منهم؛ وقوله تعالى في الجملة الثانية: { ولكن الله يفعل ما يريد } بيان لكونه بإرادته كقوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يشاء }.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن الرسل عليهم السلام يتفاضلون؛ لقوله تعالى: { فضلنا بعضهم على بعض }.
2 - ومنها: أن فضل الله يؤتيه من يشاء؛ حتى خواص عباده يفضل بعضهم على بعض؛ لأن الرسل هم أعلى أصناف بني آدم، ومع ذلك يقع التفاضل بينهم بتفضيل الله.
--------------------------------------------------------------------------------
ويتفرع عليها فائدة أخرى: أن الله يفضل أتباع الرسل بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني»(1)؛ كما أن من كان من الأمم أخلص لله، وأتبع لرسله فهو أفضل ممن دونه من أمته؛ لأن الرسل إذا كانوا يتفاضلون فأتباعهم كذلك يتفاضلون؛ فإن قلت: كيف نجمع بين هذه الآية المثبتة للتفاضل بين الرسل؛ وبين قوله (ص): «لا تخيروني على موسى»(2)، ونهيه (ص) أن يفاضل بين الأنبياء؟
فالجواب: أن يقال: في هذا عدة أوجه من الجمع؛ أحسنها أن النهي فيما إذا كان على سبيل الافتخار والتعلِّي: بأن يفتخر أتباع محمد صلى الله عليه وسلم على غيرهم، فيقولوا: «محمد أفضل من موسى» مثلاً؛ أفضل من عيسى؛ وما أشبه ذلك؛ فهذا منهي عنه؛ أما إذا كان على سبيل الخبر فهذا لا بأس به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»(3).
--------------------------------------------------------------------------------
3 - ومن فوائد الآية: إثبات الكلام لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { منهم من كلم الله }؛ وكلام الله عزّ وجلّ عند أهل السنة، والجماعة من صفاته الذاتية الفعلية؛ فباعتبار أصله من الصفات الذاتية؛ لأنه صفة كمال؛ والله عزّ وجلّ موصوف بالكمال أزلاً، وأبداً؛ أما باعتبار آحاده - أنه يتكلم إذا شاء - فهو من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته. قال الله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ، وقال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} [الأعراف: 143] ؛ حصل الكلام بعد مجيئه لميقات الله؛ ولهذا حصل بينهما مناجاة: {قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} [الأعراف: 143] ؛ فقال تعالى: {لن تراني} بعد أن قال موسى: {رب أرني أنظر إليك} ؛ هذا هو الحق في هذه المسألة؛ وزعمت الأشاعرة أن كلام الله عزّ وجلّ هو المعنى النفسي - أي المعنى القائم بنفسه -؛ وأما ما يسمعه المخاطب به فهو أصوات مخلوقة خلقها الله عزّ وجلّ لتعبر عما في نفسه؛ وقد أبطل شيخ الإسلام هذا القول من تسعين وجهاً في كتاب يسمى بـ «التسعينية».
4 - ومن فوائد الآية: أن كلام الله للإنسان يعتبر رفعة له؛ لأن الله تعالى ساق قوله: { منهم من كلم الله } على سبيل الثناء، والمدح.
ومنه يؤخذ علوّ مقام المصلي؛ لأنه يخاطب الله عزّ وجلّ، ويناجيه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا قال المصلي: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: «حمدني عبدي»؛ وإذا قال المصلي: {الرحمن الرحيم} قال الله: «أثنى عليّ عبدي»(4) إلى آخر الحديث؛ فالله تعالى يناجي المصلي، وإن كان المصلي لا يسمعه؛ لكن أخبر بذلك الصادق المصدوق (ص).
--------------------------------------------------------------------------------
6 - ومن فوائد الآية: أن الفضائل مراتب، ودرجات؛ لقوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات }؛ وهذا يشمل الدرجات الحسية، والدرجات المعنوية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم له الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأرجو أن أكون أنا هو»(5)؛ كذلك مراتب أهل الجنة درجات: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف من فوقهم - يعني العالية - كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم؛ قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين»(6).
7 - ومن فوائد الآية: إثبات أن عيسى نبي من أنبياء الله؛ لقوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات }؛ والله عزّ وجلّ أعطاه آيات ليؤمن الناس به؛ ومن الآيات الحسية لعيسى ابن مريم إحياء الموتى بإذن الله؛ وإخراجهم من القبور؛ وإبراء الأكمه، والأبرص؛ وأن يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيراً يطير بالفعل بإذن الله؛ وهناك آيات شرعية مستفادة من قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس } على أحد التفسيرين السابقين.
8 - ومنها: أن البشر مهما كانوا فهم في حاجة إلى من يؤيدهم، ويقويهم؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس}.
9 - ومنها: الرد على النصارى في زعمهم أن عيسى إله؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }؛ أي قويناه؛ ولازم ذلك أنه يحتاج إلى تقوية؛ والذي يحتاج إلى تقوية لا يصلح أن يكون ربًّا، وإلهاً.
10 - ومنها: الثناء على جبريل عليه السلام حيث وصف بأنه روح القدس؛ ومن وجه آخر: حيث كان مؤيِّداً للرسل بإذن الله؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }.
11 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم }.
--------------------------------------------------------------------------------
12 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل }؛ لأن القدرية يقولون: إن فعل العبد ليس بمشيئة الله؛ وإنما العبد مستقل بعمله؛ وهذه الآية صريحة في أن أفعال الإنسان بمشيئة الله.
13 - ومنها: أن قتال الكفار للمؤمنين كان عن عناد، واستكبار؛ لا عن جهل؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءتهم البينات }.
14 - ومنها: لطف الله بالعباد، حيث كان لا يبعث رسولاً إلا ببينة تشهد بأنه رسول؛ وشهادة الله عزّ وجلّ لأنبيائه بالرسالة تكون بالقول، وبالفعل؛ مثالها بالقول: قوله تعالى: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً} [النساء: 166] ؛ ومثالها بالفعل: تأييد الله للرسول، ونصره إياه، وتمكينه من قتل أعدائه.
15 - ومنها: بيان حكمة الله عزّ وجلّ في انقسام الناس إلى مؤمن، وكافر؛ لقوله تعالى: { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر }؛ ولولا هذا ما استقام الجهاد، ولا حصل الامتحان.
16 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { آمن }، و{ كفر }، حيث أضاف الفعل إلى العبد؛ وهم يرون أن الإنسان مجبر على عمله، ولا ينسب إليه الفعل إلا على سبيل المجاز كما يقال: أحرقت النار الخشب؛ وهذه الآية ترد عليهم.
17 - ومنها: إثبات أن الله سبحانه وتعالى هو خالق أفعال العباد؛ لقوله تعالى: { يفعل ما يريد }؛ مع أن الفعل فعل العبد: فالاقتتال فعل العبد؛ والاختلاف فعل العبد؛ لكن لما كان صادراً بمشيئة الله عزّ وجلّ وبخلقه، أضافه الله عزّ وجلّ إلى نفسه.
--------------------------------------------------------------------------------
18 - ومنها: إثبات الإرادة لله؛ لقوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد }؛ والإرادة التي اتصف الله بها نوعان: كونية، وشرعية؛ والفرق بينهما من حيث المعنى؛ ومن حيث المتعلق؛ ومن حيث الأثر؛ من حيث المعنى: «الإرادة الشرعية» بمعنى المحبة؛ و«الإرادة الكونية» بمعنى المشيئة؛ ومن حيث المتعلق: «الإرادة الكونية» تتعلق فيما يحبه الله، وفيما لا يحبه؛ فإذا قيل: هل أراد الله الكفر؟ نقول: بالإرادة الكونية: نعم؛ وبالشرعية: لا؛ لأن «الإرادة الكونية» تشمل ما يحبه الله، وما لا يحبه؛ و«الإرادة الشرعية» لا تتعلق إلا فيما يحبه الله؛ ومن حيث الأثر: «الإرادة الكونية» لا بد فيها من وقوع المراد؛ و«الإرادة الشرعية» قد يقع المراد، وقد لا يقع؛ فمثلاً: {والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27] : الإرادة هنا شرعية؛ لو كانت كونية لكان الله يتوب على كل الناس؛ لكن الإرادة شرعية: يحب أن يتوب علينا بأن نفعل أسباب التوبة.
فإن قيل: ما تقولون في إيمان أبي بكر ؛ هل هو مراد بالإرادة الشرعية، أو بالإرادة الكونية؟ قلنا: مراد بالإرادتين كلتيهما؛ وما تقولون في إيمان أبي طالب؟ قلنا: مراد شرعاً؛ غير مراد كوناً؛ ولذلك لم يقع؛ وما تقولون في فسق الفاسق؟
قلنا: مراد كوناً لا شرعاً؛ إذاً نقول: قد تجتمع الإرادتان، كإيمان أبي بكر ؛ وقد تنتفيان، مثل كفر المسلم؛ وقد توجد الإرادة الكونية دون الشرعية، مثل كفر الكافر؛ وقد توجد الشرعية دون الكونية، كإيمان الكافر.
تفسير العثيمين